top of page

مذكرات من ذهب

أوبا هو اسم مدينة الأحلام التي انتقلت إليها منذ تسع سنوات. لاطالما أحببت هذه المدينة بأشجارها وحشائشها الخضراء، بتلك الطيور المغردة التي عشقت الاستيقاظ على زقزقتها وتغريدها. هذه المدينة التي علمتني معنى السعادة بعد أن فقدت عائلتي بأكملها في حريق مروع، بمجرد تذكره يقشعر بدني.
 

مرت الأيام بسرعة في أوبا وهذا ما ساعدني ومنحني القوة للنهوض بنفسي وإيجاد ما قد ينسيني هذا الألم. مع أنني لم أتعاف كليا إلا أنني تقبلت وضعي وأصبحت متأكدا أن ما حدث هو الأفضل رغم أنه مؤلم للغاية، وأنا واثق الآن بأن عائلتي في مكان أفضل وهم فخورون بي ويتمنون لي الخير. حقا هذه الحياة صعبة جدا فأحيانا أبكي وأنهار عندما أتذكر عائلتي وأتذكر أنني وحيد في هذه الحياة، تعيس مجروح وكأنني طير حاول صياد صيده فأصيب ولكنه لم يمت. إنني يتيم في هذه الحياة.

 

أوبا مدينتي الخضراء، ذات السماء الصافية، والأشجار الباسمة والمروج الواسعة، تعطي في نفسك سعادة داخلية بلا حدود عند الوصول إليها. الهواء النقي والزهور الملونة التي تتراقص بفعل الرياح، إنها فعلا أجمل من ما تتصور فبحر من الكلمات لن يستطيع وصف جمالها اللا محدود.

قبل تسع سنوات... كنت أعيش في منزل صغير دافئ كحضن والدتي، جدرانه باهتة اللون وأثاثه قديم مهترئ. لم أشعر بحزن كوني أعيش في منزل بسيط قد ينهار في أي لحظة بل كنت سعيدا حقا، أسعد من أي طفل؛ فالفقر لم يزعجني ولم يمنعني من أن أعيش طفولتي. كنت دوما أستيقظ في الصباح وأذهب مع والدي لصيد السمك؛ كي نأكله على الغداء، فأتحمس وأرتدي حذائي الذي لم يعد بحذاء بل أصبح جوربا بعد أن انفصل عن الجزء السفلي. الفقر لم يصعب حياتنا فوالدي ووالدتي قد منحاني أنا وأختي ما نريد، وهو الحب وليس الأشياء المادية التي يطلبها أطفال اليوم.

أحمل خشبة قد سنها والدي لكي أصيد السمك، كم كنت أعشق الصيد وأتوق للذهاب مع والدي للنهر المجاور لبيتنا. لازلت أحتفظ بهذه الخشبة كتذكار من والدي، فلم أعد أملك أي شيء آخر يذكرني به. عندما نصل لوجهتنا أخلع حذائي وننزل أنا وأبي للنهر، فنستحم وبعدها نبدأ بصيد مقدار من السمك يشبعنا جميعا. وقبل أن نعود للمنزل يحكي لي والدي بعضا من قصص طفولته فيخبرني عن جدي وجدتي اللذان لم أرهمافي حياتي ويخبرني عن مغامراته والأحداث التي تحدث عند ذهابه لشراء الخبز، كنا نضحك ضحكا عفويا طعمه طعمه جميل، كم اشتقت لتلك الأيام.

عندما نصل للمنزل أركض لوالدتي التي تكون في انتظار عودتنا، تضمني نحو صدرها وكأنني قد عدت من حرب كان محتما علي الموت فيه. تأخذ أمي السمك وتبدأ بطهوه في الخارج وأما أنا فأذهب إلى أختي داليا وأحكي لها ما حكى لي والدي من قصص. أختي داليا دوما باسمة ووجها مشرق، جمالها يلفت الأنظار بشعرها الكستنائي الطويل وعيناها الزرقاوان الواسعتان وطول قامتها. إنها حقا جميلة، تشبه أمي. أما أنا فملامحي حادة تدل على قوة شخصيتي، لدي شعر شديد السواد وعينان بنيتان ناعستان، وأنا طويل القامة كذلك فهذه صفة متوارثة في عائلتنا.

أجري بعد ذلك إلى أمي كي أساعدها في تذوق الطعام، وكذلك أهرب من داليا التي تريد معاقبتي على إزعاجي لها. عندما يجهز الغداء نلتم جميعا حول المائدة، كم كانت الحياة بسيطة في ذلك الزمان وكم كانت السعادة سهلة الوصول وكان أكبر همنا هو اللعب. أذكر أن فراشي في ذلك الزمان عبارة عن قماش خفيف أضعه على الأرض بلا وسادة أو غطاء، وكانت ملابسي رثة ولم أتذمر ليوم لأنني أحببتها رغم كل ما قاله الناس لي.

وبعد الغداء أذهب إلى منزل صديقي نجم كي نلعب كرة القدم، ما أجملها من أيام. أذكر الكثير من التفاصيل التي تربطني بعائلتي، وأذكر ذلك اليوم الذي حدثت فيه الفاجعة . عندما أتذكر أي شيء عن عائلتي أتذكر كل اللحظات السعيدة وبعدها يمر علي شريط هذا الحدث المشؤوم فأرتجف، أتمنى لو أنني لحقت بهم فهذه الحياة تعيسة بدونهم وبلا طعم. كنت أتمنى أن أبكي لعلي أجد الراحة ولكن دموعي قد تحجرت في مقلتي ولم أعد أنطق من شدة الوجع.


كان يوما عاديا، فمنذ الصباح ذهبت لأجمع الخشب كي يكمل أبي صناعة طاولة الطعام، كنت متحمسا للغاية وأتوق لأن نأكل على الطاولة جميعا وأن أدعو نجم إلى منزلنا وأريه كم أن والدي نجار محترف. جمعت الخشب وكنت في طريق عودتي للمنزل، كانت الساعة حوالي التاسعة صباحا، قمت بالتجول قليلا حول القرية قبل أن أصل لمنزلي وأرى ما لم يكن في الحسبان!

منزلي كان يحترق وكل أفراد أسرتي في الداخل، تركت الخشب على الأرض قبل أن أستوعب ما حدث فقد كنت في صدمة عظيمة. أسرعت إلى الداخل لأجد المفاجأة، الباب موصد! بدأ قلبي ينبض بسرعة وكأنه يريد الخروج من قفصي الصدري، كنت سأفقد وعي من شدة الهلع، بدأت أصرخ وأنادي:"داليا، دالياااااا......" أتنفس بعمق وأحاول كسر الباب ولكن دون جدوى. عندها تذكرت الخشب الذي أحضرته وأسرعت إليه، فالوقت يمضي وعائلتي تختنق في الداخل، بدأت أضرب الباب بالخشب بقوة، أحاول وأحاول إلى أن كسر الباب.
 

لن تتخيلوا صدمتي عندما رأيت كل الأثاث محترقا والجدران الباهتة قد أصبحت سوداء. أفتش عن الجميع ولكني لا أجدهم إلى أن وصلت إلى المطبخ، عندها وقعت مغشيا علي من هول ما رأيت. داليا على الأرض، كانت متفحمة حتى أنني لم أستطع التعرف عليها بسهولة إلى أن رأيت الإسوارة التي ترتديها. كنت فاقدا الوعي ولكنني أحس بما يدور حولي، أحس بأصوات باكية قريبة مني، أناس يصرخون بحرقة، ولكن الغريب أنني لا أحس بجسمي.

فتحت عيني بصعوبة متمنيا لو أنني كنت أعيش كابوسا خللته واقعا. "هشام، هشام يا بني هل أنت بخير؟" صوت خرج من فم إحدى النساء الملتفات حولي، أجبتها بسؤال: "من...من أنت؟ وأين أنا؟ أين داليا؟" لم تتمالك نفسها فانفجرت باكية أمامي، صوتها أوجعني وحرق قلبي.


أخبرتني أن رجالا مروا أمام بيتنا في طريق عودتهم فتبينوا أنه يحترق وحاولوا إطفاء الحريق وعندما فعلوا، حاولوا إنقاذ من في الداخل ولكنهم تفاجأوا بأن الجميع قد فارقوا الحياة وأن أمي وأبي كانا في غرفة المعيشة وقد اختنقا من الدخان. أما أنا فقد عثروا علي مغشيا، فأسعفوني وأحضروني إلى هنا، منزل جارتنا.


لم أكن أدرك أنني كنت في غيبوبة لمدة يومان ولكن موت عائلتي أخرسني. لم أستطع أن أخرج كلمة واحدة من فمي، لو أن الأرض انشقت وابتلعتني لكان الألم أقل من هذا. أن تفقد عائلتك في يوم واحد هو شيء ليس بالقليل، أمي وأبي اللذان لم أفكر أبدا أنني قد أفقدهما في يوم من الأيام وأختي التي أحببت إزعاجها كل يوم وأحببت مشاركتها كل أسراري وكل ما يدور في ذهني، أن أفقدهم جميعا في فاجعة كهذه هو أمر لا يحتمل!

مرت الأيام ببطء وأنا أحاول أن استمد القوة للمضي الى الأمام، ساعدتني جارتي في استأجار بيت صغير بالقرب من منزل عائلتي الذي أصبح حطاما بعد الحريق. مر شهر منذ أن وقعت تلك الحادثة المأساوية، لازلت متعبا ويائسا، تمنيت لو أنني كنت طيرا لتبتلعني قطة بلا رحمة، تمنيت أن أنسى كل هذا الألم، أن ترجع لي عائلتي. الحياة بلا عائلة هي حقا بلا قيمة، أحس بأن كل ما حدث هو غلطتي؛ لو أنني لم أتأخر ولم أتجول حول القرية لأنقذتهم. كرهت نفسي وكرهت هذه الدنيا، إن ما يحدث لي هو فوق طاقتي.

بعد مرور سنة.... قررت الرحيل، قررت ترك كل شيء يذكرني بالماضي، سأترك كل شيء وأرحل، إلى أين؟ لا أدري. خرجت من منزلي دون وجهة، دون أحد، أبحث عن مكان يحتويني في وسط هذا الظلام الحالك. عبرت سهولا ومررت من مزارع ضخمة لم أكن أعلم أنها وجدت على بعد عدة أميال من منزلي، ولكن ما الفائدة الآن؟ الحياة بالنسبة لي أصبحت بلا معنى.

مشيت مشيا أرهقني ولكنني ضائع الآن، لا بيوت حولي ولا أشجار فقط صحراء قاحلة. أشعر بالعطش والجوع فأنا لم آكل منذ الصباح، لمحت شيئا يلمع من بعيد فانتابني الفضول وقررت أن أتبعه، لقد كان مجرد فانوس وهذا يعني أن شخص كان هنا قبل قليل. أخذت الفانوس لعله يفيدني في رحلتي الغامضة.

 

العطش يكاد يقتلني، أبحث عن ماء ولا أجد، أين أنا؟ هل أحلم يا ترى؟ تتراود في ذهني هذه الأفكار قبل أن أستيقظ، لقد غفوت من شدة التعب. بحثت في هذه الصحراء عن الواحة التي حدثني والدي عنها، لاطالما كان ينصحني ويدلني على طرق تسهل علي مشاكلي ولكنه الآن غير موجود لذا علي أن أساعد نفسي بنفسي.

أحسست بحركة خلفي، فاستدرت وإذ بي أرى رجلا أسمر البشرة، طويل القامة، ذو أنف أفطس وشعر أسود من سواد الليل. كان ممسكا بكأس من الماء، وكأن هناك من أرسل لي هذا الرجل كي ينقذني ويدلني على مخرج من هذه الصحراء الحارة. أعطاني الكأس فشربت الماء دون تردد، شربت الماء بسرعة حتى أن الرجل تعجب مني ولكنني كنت في أمس الحاجة للماء لذا لم أبال. شكرته ثم أخبرني بأن منزله قريب وأنه يود مساعدتي، فوافقت.
 

بقيت الليلة في منزل هذا الرجل الطيب الذي رغم أنه لا يعرفني إلا أنه فتح لي أبواب بيته وأنا في هذه الحالة الصعبة دون تردد! كل كلمات الشكر التي خرجت من فمي لن توفي حق هذا الرجل. في اليوم التالي، أحضر لي إفطارا مثل ما لم أر من قبل، من أنواع الزيتون والأجبان ومن كل ما تشتهي النفوس، خبز وبيض وكل ما يخطر بالبال! لم أر في حياتي أكرم من هذا الرجل النبيل.


بعد الفطور سألني عزير (وهوالرجل الذي ساعدني) عن قصتي وما الذي جاء بي إلى الصحراء في هذا الوقت من السنة، فأخبرته عن ما حدث لي وحدث لعائلتي. تعاطف معي عزير بشكل كبير وأخبرني كم أنني قوي الشخصية؛ فهناك أناس يستسلمون بعد أن يحدث لهم شيء كهذا. بكيت بعد أن أخبرته بقصتي وأخبرته أنني لم أعد أستطيع العيش بعد كل هذا فليس هناك مكان ولا أحد أذهب إليه.

 

اقترح عزير أن يقلني إلى مدينة تدعى أوبا مدينة الأحلام على حد قوله. فكرت في الأمر وقبلت بعرضه؛ فليس هناك مكان لي هنا، وليس هناك مجال للعودة إلى القرية بعد الآن فالأمر ليس بهذه السهولة. ركبنا على مركبة غريبة الشكل والتصميم، بها أربع إطارات ومقود، وبها مقاعد من الجلد. سألته عنها فأجابني بحيرة: "إنها سيارة، ألا تملك واحدة؟" لم أكن أعلم أن العالم قد تطور إلى هذه الدرجة خارج قريتي الصغيرة.

بعد عدة ساعات وصلنا إلى مدينة الأحلام، أوبا، كانت رائعة الجمال، حدائقها تخطف الأنظار والزهور والطيور التي ترفرف بحرية في هذه المدينة، حقا منظر خلاب. كم تمنيت لو أن عائلتي كانت معي في هذه اللحظة، لكانت لحظة عن ألف لحظة.

أوصلني عزير إلى مكان إقامتي ووعدني بزيارة قريبة ثم غادر. ما أطيبه من رجل حقا لا أستطيع وصف شعوري، أشعر بالسعادة تغمرني، لم أكن أعلم أن أناس كعزير مازالوا موجودين في هذا العالم، إنهم نادرون. دخلت لمنزلي الجديد، جدرانه بيضاء مطلية حديثا وأثاثه في غاية الأناقة، أنا فاقد للكلمات من جمال ما أرى! المنظر من نافذة غرفتي هو شيء عظيم، مطل على النهر والأشجار شديدة الإخضرار، إن أوبا جنة على الأرض.


مرت السنوات... وها أنا بعد أن مرت تسع سنوات على إقامتي في أوبا، لازلت أحن إلى الماضي، لأسرتي، لقريتي الصغيرة. تعلمت في هذه الحياة أن الكثير من الأشياء التي تحدث دون إرادتنا هي خير لنا حتى وإن كانت صعبة التحمل، حتى وإن ظننا أننا على حافة جرف فإنه لابد من مخرج قريب، فقط يجب علينا محاولة الصمود ومواجهة كل الصعاب لكي نثبت قوتنا وصبرنا، عندها سيرسل لنا الله من ينير لنا الطريق ومن يساعدنا على المضي للأمام.

سوف يرسل لنا شخصا ينسينا معنى الألم ويزرع في قلبنا سعادة غير طبيعية، سعادة تشمل كل النواحي، وهذا ما حدث لي بالفعل! فالآن أنا متزوج من أجمل امرأة في العالم، المرأة التي أحبتني رغم عيوبي، رغم أنني يتيم بلا أبوين ولا عائلة، رغم حالتي المادية في ذلك الوقت. لقد تقبلتني رغم الفرق الشاسع بيننا، واليوم أنا وزوجتي أماني في انتظار طفلنا الثالث.


أماني وما أجملها من امرأة، عيناها خضراوان كورق الشجر في الربيع، ووجهها بيضاوي جميل، شعرها البني ينسدل على كتفيها برقة يعطيها رونقا ولمسة جذابة، طويلة القامة ونحيلة وقلبها أنقى من الذهب. كم أنا محظوظ بهذه المرأة وبأولادي عزير وفاتن. نعم لقد أسميت ولدي عزير تقديرا للرجل الذي ساعدني والذي كان سببا في سعادتي الآن.

أما من يستسلم في الظروف الصعبة فلن ترى عينه المخرج وستكون عمياء في وجه كل من يحاول مساعدتها، ستغلق كل أبواب السعادة من أمامه ولن يرى سوى الألم والتعاسة في حياته.

Written by: Lubna Ibrahim

JOIN OUR COMMUNITY

SUBSCRIBE

YOU WILL  RECEIVE OUR LATEST NEWS AND ISSUES ON YOUR EMAIL..

bottom of page