top of page

جدتي

انصِتوا جيدًا لما تقوله الجدات، عمر الإنسان لا يقاس بالسنوات، عمره الحقيقي يقاس باللحظات التي
عاشها ومع من يعيشها. إن بعض اللحظات تعادل عمرًا بأكمله؛ فلحظة مع جدتي تعادل عمرًا
مزهرًا بالذكريات. ولو سألتموني عن الحب لحدثتكم كيف أن حديثًا واحدًا فقط مع جدتي،
بإتصال واحد فقط، بجلسة واحدة، بكلمة واحدة، من الممكن أن تحول حياتي من العدم إلى
الوجود، من التعب إلى العافية، كيف تعيد الأنفاس إلى رئتي، وملامحي، وضحكتي، وشعوري
بالرغبة في الحياة أكثر؟ الحديث معها مثل الحب هو شيء أقرب لنفخ الروح؛ فجدتي قطعة من
الجنة، باهتمامها لضوء الشمس الذي تحبه جدًا وتفتح له نوافذها كل صباح. ملامح الصدق في
تجاعيد وجهها وكفيها، شعرها الأحمر الذي تخفي بياضه بالحنّاء، نعومة ودفء يديها، كذا
سلسال الذهب الذي قَلّما تخلعه من يدها، ورائحتها المميزة بمجرد إرتمائي بحضنها. إن
رائحتها تحوي كل الأشياء الطيبة التي تعيدني لمهد طفولتي، وحضنها ملاذ يتسع لكل ضيق
وحزن مهما كان حجمه. ولو جئت لأتحدث عن نظرتها، جدتي تملك نظرة هادئة وبسمة مبهجة
كفيلة باطمئناني ولم شملي بعيدًا عن سوء هذا العالم، ملابسها التي ترتدي الطهر فيها وابتسامتها
حين أدخل الغرفة عليها فأجدها تستعد للصلاة، و أقول لها: جدة، جدة ادعي لي. فتدعو لي بكل
حب. أما عن حكايات جدتي فليس لها مثيل أبدًا، حكاياتها الجميلة والمشوقة لا تنتهي، هناك عالم
من الأحاديث والقصص التي تحتفظ بها في جعبتها. أنا شغوفة جدًا بسماع قصصها، ربما لأنها
تغلفها بشيء من الفكاهة والتشويق، تشعرني وكأني عشت اللحظات معها في كل ما ترويه. أليس
هذا أمراً مدهشا!. أخبرتني جدتي الحبيبة قصصًا وحكايا من غابر الأزمان، مغلفة بحكم
وأمثال وبضع شظايا من حياة عبثت بجدائلها البيضاء. ذات ليلة من الليال، حادثتني بصوتها
الحنون المرتعش عن بداية قصتها مع جدي -رحمه الله- عندما كانوا يعيشون في زنجبار
وترعرعوا في مدينة تدعى كاهاما. أعلم أن الحماسة تسللت إلى خواطركم، ولكن قبل أن أتطرق
إلى تفاصيل القصة التي حدثتني عنها، دعوني أخبركم عن سبب عيش جدي وجدتي في زنجبار
وما السبب في وجود الكثير من العمانيين في زنجبار قديمًا. قبل نهضة البلاد وقبل عام السبعين
بالتحديد، كانت عمان من الدول الفقيرة وذو اقتصاد منخفض جدًا، و استقرار ذاتي مهتز بسبب
أطماع الدول الأخرى بها مما أدى إلى شن حروب متفرقة؛ فارتحل الكثير من العمانيين إلى
الدول المجاورة طلبًا للاستقرار ومن ضمنها زنجبار الواقعة في المحيط الهندي وهي من
الجزر التابعة لتزانيا وتحديدًا في الشرق من إفريقيا وتبلغ مساحتها ما يقارب 2,461 كم². كانت
زنجبار مأوى ومستقر لهم وللكثيرغيرهم ، عندما سافرت جدتي إلى زنجبار كانت صغيرة في
العمر وكان معها والدها واثنين من إخوتها الذين يكبرونها سنًا. هاجروا من محافظة الشرقية،
لذا كان عليهم أن يذهبوا إلى ولاية صور، لأنها مدينة بحريّة تطلّ بوجهها على مياه المحيط
الهندي؛ كنقطة التقاء ما بين بحر عُمان شمالًا وبحر العرب جنوبًا وهي نقطة الوصل بين من
يرغبون بالارتحال من عمان إلى زنجبار. كان الطريق شاقًا عليهم، واستغرقت الرحلة حتى وصولهم إلى صور حوالي شهرًا مشيًا بالأقدام، وهنا تخبرني جدتي أن أثناء الرحلة نفذ منهم الماء ولم يجدوا ما يشربوه فاستغرقوا أيامًا وهم في عطش يبحثون عن شربة ماء ولكن لا شيء سوى سراب. مرت الأيام ولا زالوا يبحثون حتى وجدوا بئرًا في طريقهم. قرروا أن يجمعوا بعض من الأقمشة التي لديهم وربطوها ببعضها البعض ثم أنزلوها في البئر حتى تبللت بعدها سحبوها وشرعوا في عصر الأقمشة على فاهم لعلهم يرتوا قليلًا ليكملوا ما تبقى من مسير، وهذا يدل على أن السفر قديماُ كان متعبًا كثيرًا، ومدى كونهم صبورين جدًا. كانت رحلتهم عن طريق القارب الشراعي حيث كانوا يستخدمون حركة الرياح الموسميّة للقيام برحلتين
منتظمتين في السنة، في فصل الخريف تدفع الرياح الشماليّة الشرقيّة (الأزيب) السفن العُمانية
باتجاه شرق إفريقيا، وموسم هبوب هذه الرياح يبدأ عادة من أواخر شهر سبتمبر، وينتهي
موسمها في أوائل شهر مايو تقريبًا، حيث تخرج السفن من الموانئ العُمانية إلى المحيط الهندي
ثم تسير بمحاذاة الساحل الإفريقي الشرقي لترسو في زنجبار العاصمة التجاريّة في ساحل
إفريقيا الشرقية. بعد رحلة طويلة ليست باليسيرة وصلوا زنجبار بالسلامة. بعد مرور عدة
سنوات من استقرارهم في زنجبار تعرف جدي على جدتي، ثم تزوجا وأنجبا هنالك أعمامي
ومن ضمنهم أبي وهو يعتبر الإبن الثاني لهم. لقد كان جدي يعمل كل يوم حتى يؤمّن لقمة العيش
لعائلته، فقد كان وكيل للمزارعين في مزرعة أرضها شديدة الخصوبة لأحد السكان الأصليين
ذو نفوذ عالي في المنطقة. كان يراقب العمال وفي نهاية كل شهر يسلمهم الراتب. جدي كان
مسؤولًا عليهم لأن سكان زنجبار كانوا يفتقرون الخبرة الزراعية المناسبة حتى وصول
العمانيون إليهم، الذين استحوذت الزراعة عليهم منذ القدم في موطنهم الأم، فبعد وصول
العمانيين إلى زنجبار تم تطوير قطاع الزراعة الذي أدى إلى تطوير وإدخال العديد من
المحاصيل الزراعية التي لم تكن تعرفها زنجبار من قبل. من المحاصيل المهمة في زنجبار
والتي كان يشرف على زراعتها جدي، القرنفل: ويعتبر القرنفل محصولًا زراعيًا ذا جدوى
اقتصادية كبيرة، كما أن للقرنفل فوائد عديدة، فهو يدخل في صناعة العطور ومواد التجميل،
وأيضًا يستخدم طبيًا في علاج آلام الأسنان ونزلات البرد والسعال، ويدخل في الطعام مثل
المخللات واللحوم المطبوخة، بالإضافة لتقطير زيت القرنفل منه، وتعتبر زنجبار مناسبة جدًا
لزراعة القرنفل أكثر من أي مكان آخر في العالم، وأشجار القرنفل تحتاج إلى تربة طينية رملية
عميقة مع تصريف جيد. جوز الهند (النارجيل) : يحتل المرتبة الثانية في المنتجات الزراعية في
زنجبار بعد القرنفل، تنتج كل شجرة منه حوالي ثلاثين جوزة سنويًا، تستخدم ألياف جوز الهند
في البناء وسقف المنازل (الأكواخ)، أيضًا يستخرج من الجوز مشروب منعش نسميه بالمشلي،
ومحاصيل أخرى مثل: الفلفل، والمانجو، والبرتقال، والليمون، والأناناس، والبابو(الفيفاي)،
والبطاطا، والكاسافا، والأرز، والسمسم، بالإضافة لزراعة قصب السكر والشعير والفول
والبصل والخيار وغيرها من المحاصيل التي يستطيع بها الشخص أن يؤمن لقمة العيش، وهذا
التنوع الوفير من المحاصيل الزراعية إن دلّ على شيء فإنه يدل على الخصوبة الشديدة التي
تمتعت بها زنجبار كما أسلفت. ولم تكن الزراعة فقط لجدي شغله الشغال، فجدي كان يتميز بحاسته السادسة، فكان قبل حدوث أي شيء يشعر به مسبقًا. في يوم ما شعر جدي أنه ستشن
حرب بين أهالي منطقة زنجبار بسبب خلافاتهم، فارتحل مسرعًا مع عائلته، وانتقل إلى ولاية
كاهاما التي استقروا فيها لعدة سنوات حتى عادوا أخيرًا إلى الوطن الحبيبة عمان، وأصبح جدي
فيها يتاجر ببعض المحاصيل، والملابس النسائية والرجالية، وجلود الحيوانات مثل جلود الثيران
وجلود الماعز التي تُحول إلى خامات مختلفة والتي كان يجلبها من مناطق بعيدة من زنجبار.
كان التجار العرب المسلمون يهتموا بالزراعة قبل أي شيء آخر، لأنها تعتبر من عامل
إقتصادي المهم. ولا أنسى جدتي، فكان لها دور كبير بمساعدة جدي، فعندما كان يسافر ليجلب
البضاعات كانت هي تحل محله وتكمل عملية التجارة، وفي نفس الوقت كانت تقوم بتربية
أعمامي تربية حسنة، وعندما كان أبي وعمي الأكبر يذهبون للمدرسة صباحًا كانت تجهز لهم
الطعام، كما ذكر لي أبي أنها كانت تضع لهم الأكل في إناء حديدي ليحافظ على سخونته. ومرت
السنوات، وحان الأوان لعودة أبي وعمي الأكبر إلى أرض الوطن، وحين وصولهما لحقهم
جدي وجدتي وبقية أعمامي، فأصبحوا يعيشون في سلطنة عمان جميعهم، وبعد عدة سنوات
توفي عمي الأكبر فأصبح بعدها أبي الأخ الأكبر لإخوته، وبعد فترة توفي جدي، لم أستطع
رؤيته، لم أرى إلا جدتي الوحيدة والحبيبة على قلبي. جدتي اليوم تتعدى الثمانين من عمرها،
وأن يتخلل شعرها بياضًا لكنها تخفيه بالحنّاء، أن يخالط شبابها عجزًا، أن تتسلل أيامها من
الذاكرة، أن تكتسي قسماتها صبرًا، أن تلين، والنور لا يزال يشع من وجهها حينما أنظر إليها،
دائمًا ما أتفكر بمصدر هذا النور، هناك سر عجيب محفور في أعماقها أعتقد أنه الصدقة، يد
جدتي تعطي ولا تعرف حدود للمستحيل، تملأ أياد من طلب منها العون ومن لم يطلب لا تردها
صفرًا، تعطي بسخاءٍ تام فهي تعطي عطاءً حقيقيًا. وهذا ما تعلمته منها بأن أعطي وأنا راضية
بما أعطيت ومتيقنة بأن الله سيعوضني بالأجمل هذا ما تعلمته منك يا جدتي. بعد ما أخبرتني
جدتي هذه الحكايات تيقنت أن الأماكن أكثر دفئًا هي وجوه المسنين وحكاياهم، إنها تريد أن
تخبرنا نحن الذين ما زلنا في أول الطريق عن الكثير من خبايا الحياة لذا انصتوا جيدًا لما تقوله
الجدات. إنني متأكدة أن هناك المزيد الذي ستخبرني عنه جدتي يوما ما، وأعلم أنني سأتذكر هذه
الليلة بعد سنوات إن أوتيت هذا العمر الطويل الذي رسمته في مخيلتي. سأتذكر سهري الطويل
بجانب جدتي استمع لها رغم أن النعاس يداعب أجفاني، سأتذكر كيف أنني كنت أحيك قصص
جدتي وأعيش لحظاتها بكل فرحة و شغف، وكلما تذكرت هذه الليلة والتفاصيل التي فيها سأتذكر
وأدرك أن هناك قصة جديدة لابد أن أبدأها لأنني أريد أن أتذكر كل شيئًا يستحق أن يُذكر.

بقلم: إسراء بنت عبيد بن سالم الخالدية

JOIN OUR COMMUNITY

SUBSCRIBE

YOU WILL  RECEIVE OUR LATEST NEWS AND ISSUES ON YOUR EMAIL..

bottom of page